العملات الرقمية للبنوك المركزية مقابل عُرف هيمنة الدولار الأميركي في أنظمة المدفوعات العالمية!
ضمن المشهد المالي العالمي المتطور باستمرار، ظهر منافس مالي جديد في الأفق وهو ضمن فئة العملات الرقمية إلا أنه يعاكس مبدأ اللا مركزية: العملات الرقمية للبنوك المركزية(CBDCs). ومع اعتماد الدول للثورة الرقمية كذلك في الأنظمة المالية، يبدو أن هذه العملات الرقمية المدعومة من الدول بدأت تتحدى سيطرة الدولار الأميركي (USD) الراسخة عبر التاريخ كعملة ثابتة رئيسية في أنظمة المدفوعات والتسويات العالمية. في هذا المقال، نستكشف تفاعل العملات الرقمية للبنوك المركزية وسيطرة الدولار الأميركي، من خلال دراسة السيناريوهات المحتملة التي قد تغيّر في مستقبل نظام التجارة والتسويات ما بين دول العالم.
سيطرة الدولار الأميركي: نظرة تاريخية
لقد استمر الدولار الأميركي (USD) لعقود بوصفه العملة الاحتياطية العالمية. وأهميته هذه كانت نتيجة لاتفاق بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، الذي ربط العملات الأخرى بقيمة الدولار الأميركي والدولار الأميركي بالذهب. هذا الوضع الخاص منح الولايات المتحدة مزايا كبيرة، مما سمح لها بتمويل العجز بسهولة وفرض تأثير كبير على الأسواق المالية العالمية. ومع ذلك، تأتي هذه السيطرة مع تحدياتها. وبصفة الدولار “العملة الاحتياطية الأضخم” للعالم، يمكن أن تنعكس آثار تقلباته على الدول، مؤثرة على التجارة والتضخم والاستقرار الاقتصادي فيها.
ظهور العملات الرقمية للبنوك المركزية: تحول باراديغمي
تأتي هنا العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) – كطريقةٍ جديدة في تطور الأنظمة المالية الدولية، أقلّها في مجال المدفوعات والتسويات الدولية. وعلى عكس العملات الرقمية مثل البيتكوين التي تتخطى البنوك، العملات الرقمية للبنوك المركزية هي ممثلات رقمية للعملات الورقية الوطنية للدول، يتم إصدارها وتنظيمها من قبل البنوك المركزية. تقدم هذه الابتكارات مجموعة من الإمكانيات، من تعزيز الشمول المالي من خلال الوصول إلى المواطنين الذين ليس لديهم حسابات مصرفية إلى تحديث أنظمة المدفوعات التقليدية. وتقود العديد من الدول هذه الموجة، وتجدر الإشارة إلى أن الصين في طليعة هذه الدول إذ أطلقت عملتها الرقمية (اليوان الرقمي)، والبنك المركزي الأوروبي يعمل كذلك على إطلاق اليورو الرقمي.
وتجدر الإشارة إلى أن الدوافع لاعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية كثيرة. إذ تسعى البلدان من خلالها للاستفادة من مزايا المعاملات الرقمية، وتسهيل المدفوعات عبر الحدود، والحفاظ على السيطرة على سياستها النقدية في زمنٍ أصبح يعتمد أكثر على الرقمنة حتى في المعاملات المالية. ويمكن أن تعيد هذه المبادرات تشكيل المشهد المالي العالمي من خلال تقديم بدائل للدولار الأميركي في المعاملات العالمية.
الفرق بين الاحتياطي والتجارة: دور العملات الرقمية المركزية في تحسين التجارة وتسوية المدفوعات
العملة الرقمية المركزية (CBDC) هي عبارة عن نوع من العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية، مثل البنك المركزي الصيني أو غيره…، بغرض تحسين وتطوير نظام الدفع والتسوية. ومن المهم فهم الفرق بين دور العملة الرقمية المركزية كعملة تجارية ومستوى تسوية المدفوعات والتجارة.
عادةً ما يعتبر الدولار الأميركي عملة احتياطية، وهذا يعني أنها تستخدم كمخزون للقيمة في البنوك المركزية والمؤسسات المالية حول العالم. يكون الهدف من احتفاظ الدول بالدولار أو بسنداته هو حماية قيمة الأموال وتحقيق عوائد استثمارية آمنة.
بالمقابل، عند التعامل مع عمليات التجارة، مثل بيع وشراء السلع والخدمات، تصبح التحديات مختلفة. في هذه الحالة، يكون الهدف هو تسهيل عمليات الدفع والتسوية بطريقة سريعة وآمنة. هنا يدخل دور العملة الرقمية المركزية، حيث يمكن استخدامها لتسوية المدفوعات بين الأطراف المختلفة بسهولة وفعالية.
ما تقوم به الصين وكذلك مجموعة بريكس حاليًّا هو تبني استخدام العملات المحلية والعملات الرقمية المركزية المحلية لتسوية المدفوعات بين دولهم بدلًأ من الاعتماد على شبكات الدفع الدولية المعتادة مثل نطام SWIFT للمدفوعات الدولية. هذا يساهم في تحسين سرعة وكفاءة عمليات التجارة والتسوية بين الدول المشاركة.
الفرق الرئيسي بين الاحتياطي والتجارة هو أن الاحتياطي يرتبط بالاحتفاظ بالقيمة والتخزين، بينما التجارة ترتبط بتسهيل وتنفيذ العمليات التجارية بسرعة وسهولة. هنا، تلعب العملات الرقمية المركزية دورًا مهمًا في تسهيل هذه العمليات التجارية وتسوية المدفوعات بشكل أكثر فعالية وسهولة وسرعة، وتسهم في تحقيق تطور إيجابي في عالم الاقتصاد والتجارة.
العملات الرقمية للبنوك المركزية مقابل سيطرة الدولار: الأثر المحتمل
تحدي هيمنة الدولار
تطور مجال العملات الرقمية للبنوك المركزية يفتح بابًا لعصر جديد من المنافسة النقدية. ومع اعتماد المزيد من الدول للعملات الرقمية للبنوك المركزية، قد تنحصر أو تتقلص سيطرة الدولار كعملة تداول أو تسوية عالمية. ومن خلال توفير معاملات فعالة عبر الحدود والاعتماد الأقل على الدولار، يمكن أن تمهد العملات الرقمية للبنوك المركزية الطريق لنظام دفع مالي عالمي متعدد الأقطاب وجديد لا يرتكز فقط على الدولار الأميركي. وقد تستخدم الدول العملات الرقمية للبنوك المركزية لتشجيع الاعتماد الدولي، مما قد يؤدي إلى تقليل تكاليف المعاملات وتعزيز الاستقرار المالي وتوفير نظام مالي أكثر سلاسة وتعددية.
الدمج
ليس ضرورياً أن يؤدي تحدي هيمنة الدولار إلى اندثاره. وعلى العكس يمكن أن يؤدي إلى الدمج في الاعتماد بين العملات الرقمية للبنوك المركزية والدولار ضمن الإطار المالي الدولي وبذلك إلى تعزيز التعاون والتوافق. تخيل عالمًا اقتصاديًا حيث يتم الدمج بين العملات الرقمية للبنوك المركزية والدولار بسلاسة، مما يسهل التجارة والاستثمار عبر الحدود. قد يساهم هذا الدمج بين التقنيات في تخفيف التأثيرات المزعجة لتقلبات العملات المفاجئة أو تغيّر التسويات والصفقات بين الدول.
قوة الدولار: عوامل الحفاظ على الهيمنة
ومع ذلك، تعتمد هيمنة الدولار عميقًا على تاريخه وتأثيره وبنيته التحتية. لقد اعتاد العالم على استقراره وسيولته وقبوله الواسع. دور الدولار كملاذ آمن خلال فترات التقلب والزعزعة الاقتصادية لا يزال عاملًا قويًا، مما يخفف في كثير من الأحيان من تأثير المنافسين. بالإضافة إلى ذلك، تمنح هذه المقومات والمزايا للدولار قوة الهيمنة في الأسواق المالية العالمية ومعاملات التجارة، وهي ميزة قد يكون من الصعب على العملات الرقمية للبنوك المركزية أن تحجزها أو تقلصها بالكامل.
التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية
تطور اعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية يحمل تداعيات جيوسياسية واسعة النطاق. فمع اعتماد المزيد من الدول للعملات الرقمية المركزية، قد تحدث تحولات في القوى الاقتصادية، مما قد يتحدى الديناميكيات الجيوسياسية التقليدية. وقد تسعى الدول التي اعتمدت على الدولار لمعاملاتها الدولية إلى التنويع، مما يؤثر على العلاقات الدبلوماسية والتحالفات. وقد تعيد هذه التحولات كذلك تشكيل الاستقرار الاقتصادي العالمي وديناميكيات التجارة والعلاقات الدولية.
ويشكّل تطور مجال العملات الرقمية للبنوك المركزية نقطة تحول حاسمة في تطور النظام النقدي العالمي. بينما تقدم بديلًا جاذبًا لسيطرة الدولار في التداولات والمعاملات التجارية، فإن مراحل التقدم مليئة بالتعقيدات والتحديات.
هيمنة الدولار الأميركي على مدى التاريخ وسيولته وبنيته التحتية المؤسسة تجعله منافسًا قويًا للغاية بوجه العملات الرقمية للبنوك المركزية. ومع تبني الدول لهذا التحول الرقمي، يترقب العالم بداية عصرٍ مالي جديد للمدفوعات الدولية بعيدًا عن العملة الاحتياطية المسيطرة عالميًّا.
وفي هذه المقارنة الحساسة بين العملات الرقمية للبنوك المركزية وسيطرة الدولار، يبقى المستقبل غامضًا. وعلى الرغم من إمكانية تحدي العملات الرقمية للبنوك المركزية لهيمنة الدولار كوسيلة دفع معتمدة عالميًّا، لا يمكن تقويض موقع الدولار المعترف به في الاقتصاد العالمي بهذه السهولة. إلا أننا هل يمكن أن نشهد حقًّا في المستقبل سيطرةَ العملة المركزية الرقمية في مجال المدفوعات على الدولار أم العكس أم أننا سنشهد على دمج هذين؟