المناورات الجيوسياسية تشكل طموحات الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط
إنّ السعي نحو التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط ليس مجرد سباقٍ تقني، بل ساحة معركةٍ لمصالح جيوسياسية، حيث تُبرَم التحالفات وتكتسب الخيارات أهميةً بالغة. ويتمركز في وسط هذه الحسابات الاستراتيجية كلٌّ من الولايات المتحدة الأميركية والصين، حيث تتنافس كلٌّ منهما على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي، ليس فقط باعتباره واجهةً تكنولوجيةً جديدة، بل أيضًا مسألةً أمنًا قوميًّا.
فعلى سبيل المثال، ترى الولايات المتحدة الأميركية أنَّ إنتاج الرقائق الإلكترونية يُعدّ أمراً حيويًا لأمنها القومي، ومن هنا تعمل على تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، داعيةً دول المنطقة إلى الانحياز لمصالحها. وعلى العكس من ذلك، فإن الوجود الصيني المتنامي في المنطقة يثير قلق واشنطن، مما يدفعها إلى التدقيق وفرض القيود.
أما الخليج، فيجد نفسه في خضمِّ منافسةٍ على الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة. ففي أغسطس 2023، فرضت الولايات المتحدة قيودًا على شحن الآلاف من الرقائق عالية الأداء من شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية (TSMC) إلى الشرق الأوسط، والتي كانت متجهة إلى شركة Nvidia العملاقة في مجال الذكاء الاصطناعي. فيهدف مسؤولو واشنطن إلى منع الشركات الصينية من استخدام دول الشرق الأوسط كقناة للوصول إلى تكنولوجيا الرقائق المتطورة.
تحالف الإمارات الاستراتيجي مع أميركا في مجال الذكاء الاصطناعي
يحتل قرار تعزيز العلاقات القوية مع الولايات المتحدة الأميركية صميم استراتيجية دولة الإمارات العربية المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي. وتجسد هذه الشراكة الاستراتيجية بشكل واضح في قرار شركة “جي 42” الإماراتية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي (والتي تعد أيضًا شريكًا مؤسسًا لشركة “إم جي إكس”) بالانسحاب من استثماراتها في الشركات الصينية. وقد أوضح هذا التوجه السيد بنغ شياو، الرئيس التنفيذي لشركة “جي 42″، خلال القمة العالمية للحكومات.
وفقًا لما ورد في صحيفة فاينانشيال تايمز، فإن شركة “جي 42” بصدد قطع علاقاتها مع موردي الأجهزة الصينيين لصالح نظرائهم الأميركيين. كما قامت الشركة ببيع أسهمها في شركات صينية، بما في ذلك شركة “بايت دانس” المالكة لتطبيق تيك توك. وقد قام صندوق “42 إكس فاند”، ذراع الاستثمار التكنولوجي التابع لشركة “جي 42” والذي تبلغ قيمته 10 مليار دولار أميركي، بسحب جميع استثماراته في الصين. وبحسب التقرير الذي يستند إلى بيانات من شركة “بيتش بوك”، يُقدّر أن قيمة حصة شركة “جِهاز 42” في شركة “بايت دانس” المالكة لتطبيق تيك توك كانت تبلغ 100 مليون دولار أميركي.
وذكر السيد بنغ شياو في مقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز، أن هذه الخطوة تهدف إلى ضمان الوصول إلى الرقائق الأميركية الصنع، وبالتالي تبديد المخاوف لدى شركائها الأميركيين، ومن بينهم مايكروسوفت وشركة OpenAI. وأضاف شياو للصحيفة قائلاً: “بالمحصلة، وبصفتنا شركة تجارية، نحن في موقف يفرض علينا اتخاذ قرار. لا يمكننا العمل مع الجانبين في نفس الوقت، فالأمر مستحيل”.
من ناحية أخرى، وصف عمر العلماء، وزير دولة للذكاء الاصطناعي في دولة الإمارات، خلال مقابلة مع بلومبيرغ في القمة العالمية للحكومات في دبي، الإمارات بأنها “شريك قوي للغاية” للولايات المتحدة. وأوضح قائلًا: “جميع أسسنا التكنولوجية والبنية التحتية مرتبطة بشركات أميركية، وهذا لن يتغير في أي وقت قريب”. وأضاف الوزير أنه على الرغم من هذه الشراكة، فإن هذا لا يستبعد العمل مع الشركات الصينية، مؤكداً أنه لا يعتقد أنه يمكن القول إنك بحاجة إلى أحدهما ولا تحتاج إلى الآخر.
ماذا عن السعودية؟
تتشابك طموحات المملكة العربية السعودية في مجال الذكاء الاصطناعي مع رؤيتها 2030، وهي خطة شاملة تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط ودفع النمو الاقتصادي من خلال التنويع القائم على التكنولوجيا. ومع ذلك، تجد الرياض نفسها متورطة في وضع دبلوماسي حساس بينما تسعى إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع كل من الصين والولايات المتحدة.
يبرز التعقيد الذي تواجهه الرياض في الحفاظ على علاقاتها المزدهرة مع الصين مع استرضاء المصالح الأميركية، من خلال الحظر الأخير على شراء السعودية لأسهم FTX في شركة “أنثروبيك” بسبب مخاوف الأمن القومي. ويعكس قرار شركة “أنثروبيك” المشهد الجيوسياسي المعقد، حيث تشير إلى علاقات السعودية مع الصين وسجلها في حقوق الإنسان كعوامل مؤثرة في الحظر.
وفي وقت سابق، صرح أميت ميدهة، الرئيس التنفيذي لشركة ألآت، لوكالة رويترز ردًا على سؤال حول وجود مخاوف من الشراكة مع شركة داهوا المدرجة على قائمة العقوبات الأميركية، قائلًا: “إنهم الشركة الثانية عالميًا فيما يفعلونه. قمنا باختبار التكنولوجيا، ونظرنا إليها ونحن سعداء جدًا بها”.
هذا ولم يمر تعميق الشراكة السعودية مع الصين مرور الكرام، حيث أثار التدقيق من الولايات المتحدة وأصحاب المصلحة الآخرين. وبينما تسعى الرياض إلى التنقل على هذا الحبل المشدود جيوسياسيًا، فإن معارضة الولايات المتحدة لاستثمار السعودية في القطاعات الحساسة تشير إلى مصالحها الاستراتيجية في حماية التكنولوجيا والتحالف مع الحلفاء في القضايا الحرجة.
يُلمَس الضغط على السعودية لاختيار طرف وسط المنافسة الأمريكية الصينية. ويمثل الحظر الأخير مثالاً على جهود الولايات المتحدة للتأثير على موقف الرياض، وحثها على النأي بنفسها عن الصين للحفاظ على التحالفات الاستراتيجية. إن عدم القيام بذلك يهدد بتوتر العلاقات وقد يعيق التعاون بين السعودية والولايات المتحدة في مساعيهما المشتركة في مجال الذكاء الاصطناعي.
طليعة الذكاء الاصطناعي في الإمارات تحدد السرعة
تخطو دولة الإمارات خطوات كبيرة في المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي، مدعومة بمبادرات ملموسة واستثمارات كبيرة. ومن خلال الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2031، تهدف دولة الإمارات إلى ترسيخ مكانتها كدولة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي. ويتجلى التزام دولة الإمارات في استثماراتها المالية، كما يتضح من تخصيص 500 مليون دولار الذي أعلنه مجلس أبحاث التكنولوجيا المتقدمة (ATRC). ويشمل هذا الاستثمار مبادرتين رئيسيتين: مسعى بقيمة 200 مليون دولار للوصول إلى التكنولوجيا وإنشاء مؤسسة فالكون، ومنظمة غير ربحية بقيمة 300 مليون دولار مخصصة لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مفتوحة المصدر.
ويؤكد التعاون مع عمالقة القطاع مثل Mastercard وCerebras على التزام دولة الإمارات بتطوير قدرات الذكاء الاصطناعي. فيهدف مركز ماستركارد للذكاء الاصطناعي المتقدم والتكنولوجيا السيبرانية في دبي، الذي تم افتتاحه كجزء من التعاون مع حكومة الإمارات العربية المتحدة، إلى تطوير أدوات لمنع الجرائم المالية مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
وبالمثل، فإن التطوير المشترك لبرنامج الذكاء الاصطناعي المدرَّب على اللغة العربية والذي يحمل اسم Jais من قبل شركة Inception التابعة لشركة G42، وCerebras، وMBZUAI، يعرض شراكات مبتكرة تقود ابتكارات الذكاء الاصطناعي في دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت أبوظبي عن إنشاء شركة الاستثمار التكنولوجي التابعة لها، MGX، التي تستهدف صفقات في مجال الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات مع تطلعات تتجاوز 100 مليار دولار من الأصول الخاضعة للإدارة.
على الرغم من كون الإمارات العربية المتحدة هي السباقة في إطلاق المبادرات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، حيث أنشأت أول وزارة للذكاء الاصطناعي على مستوى العالم في عام 2017، إلّا أنّ رؤية السعودية الطموحة 2030 تدفعها نحو استثمارات كبيرة في هذا المجال. ويتجلّى ذلك جليًا في إنشاء مؤسسات رئيسية مثل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) والمركز الوطني للذكاء الاصطناعي، مما يؤكد التزام المملكة العربية السعودية بدمج الذكاء الاصطناعي في مساعيها لتنويع الاقتصاد.
تعكس الاستثمارات الاستراتيجية، التي يقودها صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، التزام السعودية بمبادرات الذكاء الاصطناعي. حيث خصص الصندوق، الذي تبلغ قيمة أصوله أكثر من 900 مليار دولار أمريكي، رأس مالًا كبيرًا للتكنولوجيا، بما في ذلك خطط للتعاون مع شركة رأس المال الاستثماري “أندريسين هوروويتز” لإنشاء صندوق بقيمة 40 مليار دولار أميركي يركز على الذكاء الاصطناعي.
بالإضافة إلى الصندوق المقترح الذي يركز على الذكاء الاصطناعي، حددت شركة “أَلت”، الكيان الذي تم تشكيله حديثًا من قبل صندوق الاستثمارات العامة، خططًا طموحة لاستثمار 100 مليار دولار أميركي في السعودية بحلول عام 2030. وتهدف هذه الاستثمارات إلى دفع عجلة التنويع الاقتصادي وخلق فرص عمل ماهرة وتعزيز الاقتصاد غير النفطي. يُجسد تعاون “أَلت” مع شركاء مختلفين، بما في ذلك شركة داهوا للتكنولوجيا ومجموعة سوفت بنك، التزام السعودية بالاستفادة من الخبرات والموارد الخارجية للمضي قدمًا في جدول أعمالها في مجال الذكاء الاصطناعي.
على وجه التحديد، تركز شراكة “أَلت” البالغة قيمتها 200 مليون دولار أميركي مع شركة داهوا للتكنولوجيا، وهي إحدى شركات تصنيع معدات المراقبة الرائدة في الصين، على إنتاج أجهزة المراقبة محليًا. علاوة على ذلك، أقامت “أَلت” تعاونًا بقيمة 150 مليون دولار أميركي مع مجموعة سوفت بنك اليابانية لتصنيع أحدث التقنيات في مجال الروبوتات داخل المملكة. كما تجري شراكات أخرى مع شركة كاري الأمريكية وشركة الاتصالات السعودية (stc) وفقًا لتقرير لوكالة رويترز.
تجاوز حواجز الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل الضغوط الجيوسياسية
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يواجه تبني الذكاء الاصطناعي تحديًا مزدوجًا يتمثل في التغلب على الضغوط الجيوسياسية وسط التنافس بين الولايات المتحدة والصين مع التغلب على الحواجز الكامنة. على الرغم من مشهد الذكاء الاصطناعي المزدهر في المنطقة، إلا أن قطاعات مثل البناء تتأخر بسبب فجوات البيانات والخبرة، والتي تتفاقم بسبب العقبات التنظيمية والقيود المفروضة على تخزين البيانات.
لسد هذه الفجوات، تقوم المنظمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بزيادة الاستثمار في مجالي الأمن وإدارة المخاطر (SRM)، بالرغم من مواجهتها لنقصٍ في البنية التحتية التكنولوجية. تهدف مبادرة “إم جي إكس” الإماراتية إلى معالجة هذا الأمر من خلال الاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي وبرامج التدريب المتقدمة، مما يمهد الطريق لتصبح منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مركزًا للذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، وفي خضم سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة، تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صعوبات في تصميم الرقائق وقيودًا على صادراتها.
وعلى الرغم من وفرة موارد الطاقة التي يمكن أن تدعم إنشاء مراكز البيانات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، فإن دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تحتاج إلى دعم لتطوير قدرات تصميم الرقائق المحلية واستقطاب المواهب العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي. وتوفر الشراكات مع قادة القطاع مثل سام ألتمان وماسايوشي سون مجالات محتملة لتعزيز طموحات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال الذكاء الاصطناعي في ظل الضغوط الجيوسياسية.