موقف أميركا من العملات الرقمية: تنظيم أم تضييق؟
يواجه مجال العملات الرقمية انتكاسة كبيرة في الولايات المتحدة الأميركية في الفترة الأخيرة، حتى بات الحال وكأن بعض المنظمين المتخصصين بالسياسة المالية يحاولون تجميد القطاع والإمكانات المنظمة التي تدعم هذا المجال حتى دون موافقة الكونغرس أو أي قرارات رسمية!
هذه الخطوة، التي تبدو وكأنها جزء من حملة تنظيمية منسقة وربما غير دستورية، تضع أميركا ضمن مسارٍ خطير لإغلاق النظام المصرفي أمام قطاعات معينة في التكنولوجيا المالية وضمنها بشكلٍ أساسٍ مجال العملات الرقمية، وفقاً لمدعي فيدرالي سابق ومدير تنفيذي لشركة استثمارية متخصصة في التقنيات اللامركزية.
في يناير 2023، أصدر كل من مكتب المراقبة المالية الأميركي، وجهة خاصة للتأمين على الودائع الفيدرالية، والاحتياطي الفيدرالي بياناً يحث المؤسسات المالية على أن تكون في حالة تأهب تجاه العملاء المتعاملين بالعملات الرقمية، زاعمين أن الشبكات اللامركزية “من المرجح جداً أن تكون غير متسقة مع الممارسات المصرفية الآمنة والسليمة. وقد أدى هذا البيان بدوره، إلى جانب محاولات التضييق الواضحة من قبل المنظمين، إلى تجنب العديد من البنوك أي عمل متخصص بتقنيات البلوكتشين والعملات المشفرة. وبحسب ما ورد يربط المنظمون مبيعات البنوك المتعثرة بعلاقتها بهذا المجال على وجه الخصوص.
ومن المهم الإشارة إلى أن الكونغرس والمجالس التشريعية للولايات المتحدة الأميركية، هي الجهات المسؤولة فقط عن اتخاذ قرارات رسمية في هذه الشؤون ضمن قارة أميركا. إذا كان المنظمون الماليون قلقين بشأن مخاطر محددة ويعتقدون أن القواعد الجديدة مناسبة، فعليهم اتباع الإجراءات أو إعلانها رسمياً، بما في ذلك الإصدار العام لتشريعات وأطر تنظيمية واضحة ورسمية مع مبرراتها للقطاع. إذا كانت هناك حاجة إلى التشريع، فيعتبر الكونغرس الجهة الأولى الرئيسية والأساسية التي يجب أن تتخذ هكذا قرارات، لكن لا يجب على بعض الجهات الأخرى أن تحاول تدمير مجال العملات الرقمية وسائر القطاعات المرتبطة به وبالتكنولوجيا المالية من خلال تجميدها خارج النظام المصرفي.
لماذا يجب على أميركا التنبّه لقراراتها تجاه قطاع العملات الرقمية؟ نسب وأرقام
لا شكّ أن التنظيم مطلوب لحماية الأصول المالية للمستهلكين وكذلك جعل السوق مكاناً أكثر أماناً بشكل عام. لا يؤدي هذا إلى غرس ثقة أكبر في أولئك الذين يتداولون في السوق فحسب، بل يزيد أيضاً من جاذبية القطاع، مما يسهل اعتماد خدماته على نطاق أوسع.
ولكن في ظلّ الإجراءات التي يتم اتخاذها مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية، باتت محاولات التنظيم وكأنها محاولات لجم لقطاع العملات الرقمية.
وفي هذا السياق، على الولايات المتحدة الأميركية التنبّه من موقفها حيال العملات المشفرة الذي لربّما سيؤثّر عليها قبل أن يؤثر على الناشطين المحليين والخارجيين في مجال العملات الرقمية ككل.
فقد بيّنت النسب والأرقام الدقيقة منذ عام 2022 أنه تم تقدير السكان الأميركيين المهتمين بشراء العملات الرقمية بنسبة تزيد عن 51% بالمائة من السكان ككلّ. وهذا الرقم كبير للغاية ويزيد أهمية قرارات الدولة الأميركية من العملات الرقمية كذلك!
ووجد استطلاع تم نشره في نوفمبر 2022 أن أكثر من نصف الأميركيين (53% بالمائة) يوافقون على أن “العملات الرقمية هي مستقبل التمويل”، بما في ذلك 59% بالمائة من الديمقراطيين و51% بالمائة من الجمهوريين. لا يعتقد كل من الديمقراطيين والجمهوريين فقط أن العملة الرقمية هي قضية تزداد أهمية مع تطور الأنظمة المالية فقط، ولكنهم يتفقون أيضاً على الحاجة إلى التنظيم المناسب للقطاع.
وتشير الأرقام أيضاً إلى أن أربعة من كل خمسة أميركيين تم استطلاع آرائهم (79% منهم) أكدوا الحاجة إلى تنظيم أكثر وضوحاً للعملات الرقمية – بدعم من الديمقراطيين (87%) والجمهوريين (76%).
أخيراً، وربما الأهم من ذلك، ينظر معظم الأفراد الذين تم استطلاع آرائهم إلى العملة الرقمية على أنها الطريق إلى نظامٍ مالي أكثر شفافية ووضوح. هذا وأكد استطلاع أن أكثر من نصف البالغين الأميركيين (56% بالمائة منهم) يشددون على أن الابتكارات في مجال التمويل التي تعتمد بشكلٍ أقل على البنوك/الوسطاء الماليين كمجال العملات الرقمية ستخلق اقتصاداً أكثر شفافية وعدل. ويتحقق ذلك من خلال السماح لمزيد من الناس بالوصول إلى الأنظمة المالية العالمية.
خطوات أميركية مجحفة بحق العملات الرقمية
تم الكشف منذ أيام أن الحكومة الأميركية تعتزم تصفية 41 ألف بيتكوين متبقية بحوزتها ضمن أربع دفعات منفصلة على مدار العام الحالي وهذا يدلّ على أنّها تتخلص من أكبر قيمة ثابتة في سوق العملات الرقمية وهي وحدات البيتكوين!
وقد تمّ أيضاً الإعلان من قبل المشرعين في لجنة الخدمات المالية في مجلس النواب الأميركي عن تأجيل النقاش في مشروع قانون العملة الرقمية المستقرة بعد أن دفعت وزيرة الخزانة “جانيت يلين” لإجراء تغييرات في بند رئيسي من التشريع. فهل سيلغى يا ترى؟!
هذا وكشفت منصة “كوين بيس-Coinbase” أنها ستمثل أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة في أول قضية لها على الإطلاق كما يمكن أن يكون للقرار أيضًا عواقب أوسع على شركات العملات الرقمية الأخرى التي أصبحت في كثير من الأحيان عرضة لدعاوى قضائية جماعية.
عدا عن ذلك، انتشر رأي غاري جينسلر، رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC) في الولايات المتحدة، حول العملات الرقمية إذ يصفها بـ “الغرب المتوحش” مشيراً إلى أنها متفشية مع عدم الامتثال والتنظيم. هذا ويشدد جينسلر على الحاجة المستمرة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد سوء السلوك في مجال العملات الرقمية ويحذر المستثمرين من أن وضع أصولهم التي حصلوا عليها بأتعابهم في مجال العملات الرقمية يعتبرُ أمراً محفوفاً بالمخاطر.
والأهم من ذلك، أنه منذ أسبوعٍ أمر قاضٍ فيدرالي بوقف إتمام صفقة بيع مقرض العملات الرقمية “فويجير ديجيتال -Voyager Digital” المفلس إلى منصة تداول العملات الرقمية بينانس –Binance في الولايات المتحدة. كما قدم مكتب المدعي العام الأميركي للمنطقة الجنوبية لنيويورك ومكتب الوصي الأميركي، وهو عبارة عن هيئة مراقبة الإفلاس التابعة لوزارة العدل (DOJ)، طعونًا في أوائل مارس بشأن موافقة محكمة الإفلاس على البيع.
واعتبروا أن الموافقة من الممكن أن تكون بمثابة ختم مطاطي للممثلات الرقمية التي قد تكون أوراقًا مالية غير مسجلة، بالإضافة إلى المعاملات التي قد تكون غير قانونية بموجب قوانين الأوراق المالية الأميركية.
ليس هذا فقط، فقد رفعت لجنة تداول السلع الآجلة (CFTC) دعوى قضائية ضد منصة التداول بالعملات الرقمية العالمية “بينانس”، ورئيسها التنفيذي “تشانغبينغ زاو”، وذلك بسبب زعمها أن بينانس تقوم بانتهاك القواعد واللوائح التنظيمية الأميركية. فيما تؤكد Binance.US علنًا أنها مستقلة تمامًا عنBinance.com ، وتعمل كـ “شريك الولايات المتحدة” لأكبر منصة للتداول في العالم.
هذا وعارضت هيئة تداول السلع الآجلة (CFTC) ذلك في الدعوى القضائية، زاعمةً أن موظفي “بينانس” هم من فرضوا استراتيجية شركة Binance.US وأشرفوا على إطلاقها وعملياتها المبكرة لا بل وأكدوا أن لها علاقة مستمرة معBAM Trading ، وهي شركة يقودها الرئيس التنفيذي ومؤسس “بينانس”، تشانغبينغ زاو.
كيف ردت بينانس؟
بعدما رفعت لجنة تداول السلع الآجلة (CFTC) دعوى قضائية ضد منصة التداول الرائدة “بينانس”، ورئيسها التنفيذي “تشانغبينغ زاو”، تراجعت أسعار أكبر عملتين رقميتين من حيث القيمة السوقية، البيتكوين والإيثيريوم وفقًا لـCoinGecko.
هذا وردّ “زاو” على إعلان الدعوى بالتغريد بـرقم “4”، في إشارةٍ إلى تغريدة نشرها في يناير تربط الرقم بـكلمة “FUD”، التي تعني تجاهل الأخبار المزيفة والمهاجمات وما إلى ذلك.
تزعم الدعوى القضائية أن “بينانس” قامت بتشغيل منشأة لتداول مشتقات الأصول الرقمية في الولايات المتحدة منذ يوليو 2019، مما يسمح للمقيمين بالتداول في العقود الآجلة والمقايضات بالعملات الرقمية بما في ذلك بيتكوين وإيثيريوم ولايت كوين.
كما بذلت “بينانس” محاولات لتوسيع نطاق تواجدها في الولايات المتحدة على الرغم من الادعاءات بأن المقيمين في الولايات المتحدة سيتم منعهم من الوصول إلى المنصة.
وفي هذا السياق، ردت بينانس: “اتخذنا نهجًا تدريجيًا مدروساً لتطوير وتوسيع وجودنا في الولايات المتحدة على الرغم من التصريح علنًا بمنع أو تقييد العملاء في الولايات المتحدة من الوصول إلى نظامنا الأساسي.”
وفي بيانٍ رسمي أوضحت بينانس أن الشكوى المقدمة من لجنة تداول السلع الآجلة- CFTC غير متوقعة ومخيبة للآمال لأنهم كانوا يعملون بشكلٍ تعاوني معهم لأكثر من عامين. ومع ذلك، أكدت بينانس في بيانها أنها تعتزم مواصلة التعاون مع المنظمين في الولايات المتحدة الأميركية وحول العالم لتطوير نظام لقطاع العملات الرقمية واضح ومدروس. وقدّمت تبريراً للخطوات المكثفة التي تتخذها من أجل الحفاظ على التنظيم في المجال.
ومن ثمّ صعّدت بينانس بقولٍ رسمي تلقّته أنلوك لنشره، وهو: “تلتزم Binance (بينانس) بمنصة آمنة لمستخدميها العالميين. لن نعلق على التقاضي ونخطط للطعن بقوة في الادعاءات غير الصحيحة في هذه الدعوى القضائية”.
هل الولايات المتحدة الأميركية وراء هذه الإجراءات الصارمة بحق العملات الرقمية؟
بينما تضع دول أخرى قوانين ولوائح لتنظيم الأصول الرقمية من خلال عمليات حكومية رسمية لتوسيع هذا المجال في دولها من سنغافورة للإمارات العربية المتحدة للبحرين وغيرها الكثير، تضع الولايات المتحدة الأميركية بالمقابل خططاً تحل محل التشريعات والتنظيم العام الرسمي لتحدّ من تطور مجال العملات الرقمية. لكن ما زال الشكّ يدور حول الجهة الفعليّة المسؤولة عن إطلاق هذه الأحكام التي تلجم تطوّر العملات الرقمية وشركاته، فهل هذا هو حقاً الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأميركية من قطاع العملات الرقمية الذي يعتبره غالبية الشعب الأميركي مستقبل التمويل وازدهاره؟ أم أنّ هذا الموقف لا زال يعبّر عن مواقف جهات غير منظمة وغير رسمية؟
أسئلةٌ كثيرة في الأفق، كيف ستطرح الولايات المتحدة الأميركية موقفها وتنظيمها لمجال العملات الرقمية في المستقبل القريب؟ وكيف ستردّ شركات العملات الرقمية التي تتمّ مهاجمتها؟