كيف تبدّل مشهد تنظيم العملات الرقمية عربياً وعالمياً بعد عامٍ حافل؟
مع الاضطرابات الأخيرة والكثيرة التي يمرّ بها سوق وشركات العملات الرقمية وبسبب ما خلقته حادثة إفلاس منصة العملات الرقمية “أف تي أكس-FTX” المدوية وفضائح استغلال مسؤوليها التنفيذيين أموال وأصول المستخدمين لعيش حياة الرفاهية وغيرها من عمليات الاحتيال المالي لعام 2022، تكثر الإشكاليات والطروحات حول إمكانية لا بل ضرورة تنظيم مجال العملات الرقمية مرة واحدة وللأبد!
ومع بداية عام 2023 كان لا بدّ لـ”أنلوك” أن تأخذ نظرة حول أبرز التقارير التي تتناول إشكالية تنظيم مجال العملات الرقمية لتقديم نظرة عامة على مشهد تنظيم العملات الرقمية عالمياً ومحلياً في الدول العربية كدولة الإمارات العربية والمتحدة ومملكة البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية…
وفي هذا السياق، يقدم تقرير “PwC Global Crypto Regulation 2023” نظرة ثاقبة حول كيفية تطور الأطر التنظيمية لمجال العملات الرقمية في جميع أنحاء العالم ويسعى إلى تحديد كيفية تأثير ذلك على المشاركين المعنيين في مجال العملات الرقمية ومقدمي خدمات الأصول الإفتراضية في قطاع الخدمات المالية.
إلى أين يتجه “تنظيم العملات الرقمية”؟
في الآونة الأخيرة، كما ذُكِر سابقاً، شهد سوق العملات الرقمية فقدان ثقة المستهلك، بعد عدد من إخفاقات شركات العملات الرقمية العالمية والمعروفة والاحتيال وسوء إدارة أموال العملاء. وبدوره، ازداد التركيز التنظيمي على الأصول الرقمية بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية وسيستمر على هذا النحو.
وهنا يوضح تقرير “PWC” أن “المخاطر التي تهدد نزاهة السوق تظهر الحاجة الملحّة إلى نهج عالمي سريع وشامل للسياسات التنظيمية وإطار إشرافي عليها، لضمان تعزيز حماية المستهلك.” ويبدو واضحاً أن فئة الأصول العالمية، التي نمت بسرعةٍ كبيرة، أصبحت أكثر ترابطاً مع النظام البيئي المالي التقليدي، وبالتالي ينتج عن هذا تأثير متزايد على الاستقرار المالي. وتزداد المخاطر بسبب سرعة وتيرة الابتكار وبالمقابل عدم التركيز على إدارة المخاطر في المجال.
وفي السياق التنظيمي، يعمل واضعو المعايير العالمية على تسريع الدفع نحو التعاون الدولي لتنظيم العملات الرقمية. فقد أعلنت العديد من السلطات والدول عن خططها لتصبح مراكز عالمية للأصول الرقمية والتكنولوجيا والابتكار كسنغافورة والإمارات العربية المتحدة وغيرها…
هذا وأصبح الإتحاد الأوروبي في مراحل متقدمة من وضع اللمسات الأخيرة على الأسواق الجديدة في تنظيم الأصول الرقمية.
وفي الإمارات العربية المتحدة، تم إنشاء أول سلطة في العالم تركز فقط على الأصول الافتراضية وهي “سلطة تنظيم الأصول الإفتراضية-VARA”. هذا وقامت سويسرا بدمج الأطر التنظيمية للأصول الرقمية، مما يسمح لناشطي سوق العملات الرقمية اكتشاف المعاملات القانونية والتنظيمية لمشاريعهم وأنشطتهم الخاصة بالعملات الرقمية.
وبشكل عام، يقوم عدد كبير من البلدان بالبحث والتعريف والتشاور والتفاوض والتشريع من أجل إدخال الأصول الرقمية ضمن قوانينهم وأطر الخدمات المالية القائمة. ومع ذلك، فإن سرعة العمل، والنهج المعتمد، والخدمات والمنتجات المشمولة، وحتى التعاريف والمصطلحات المستخدمة لا تزال مختلفة بين دولةٍ وأخرى إلى حد كبير، وهذا يصعّب عملية الشمول والتعاون الدولي في مجال تنظيم العملات الرقمية.
ومن الواضح أن المنظمين يتسابقون لإحداث التغيير في مجال العملات الرقمية. كما يجب أن تكون شركات العملات والأصول الرقمية مستعدة لمعايير أعلى من تلك التي يتم العمل بها اليوم.
هذا ويرتفع المستوى لجعل شركات الأصول الرقمية تتماشى مع التزامات الخدمات المالية التقليدية. ولكن بالنسبة للمستهلكين والشركات وأصحاب المصلحة الآخرين، وبحسب تقرير “PWC” يبدو أن هذا التغيير في مجال العملات الرقمية لا يمكن أن يحدث في وقت قريبٍ جداً.
المشهد التنظيمي من بعض الدول العربية
رغم المبادرات الكثيرة من قبل دول عربيّة عدّة في مجال العملات الرقمية من حركات تداول أو تنظيمات أو حتى إشراك الشركات للعمل بالعملات الرقمية إلا أن المحاولات لا زالت متواضعة ولا تشمل كل الدول العربية. ومن حيث المشهد التنظيمي لمجال العملات الرقمية قامت بعض الدول بإصدار أطر تنظيمية نهائية وأخرى تدرس هذا الملف أما بعض الدول فلا زالت تحظر العملات الرقمية ضمن حدود الدولة.
قطعت دولة الإمارات العربية المتحدة شوطاً كبيراً في مسألة تنظيم العملات الرقمية. من ناحية الإطار التنظيمي فقد أصدرت الإمارات إطاراً تنظيمياً وتشريعات خاصة بها وأصبحت مطبقة ضمن حدود دولتها وكذلك عملت على التشريعات الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CTF). أما من ناحية اعتماد العملات الرقمية المستقرة (Stable Coins) كوسيلة للدفع، لم تطلق دولة الإمارات بعد التشريعات النهائية في هذا الخصوص.
وتعتبر مملكة البحرين الدولة العربية الوحيدة إلى جانب الإمارات العربية المتحدة، التي وضعت أيضاً تشريعات وإطار تنظيمي للعملات الرقمية ولمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالمقابل لم تبدأ دولة البحرين بعد بدراسة التشريعات لإمكانية اعتماد العملات الرقمية المستقرة (Stable Coins).
أمّا عن كل من دولة الكويت وعمان والأردن فلم تبدأ حتى الآن هذه الدول الثلاثة حتى بدراسة تشريعات وأطر تنظيمية خاصة بالعملات الرقمية أو بإمكانية اعتماد العملات الرقمية المستقرة كوسيلة للدفع. وأصدرت دولة الأردن فقط أطر خاصة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
بالمقابل تحظر كل من المملكة العربية السعودية وقطر العمل والتداول بالعملات الرقمية. (بحسب تقرير PWC)
لكن على الرغم من أن المملكة العربية السعودية تحظر العملات الرقمية، إلا أنها عملت بالفعل لإطلاق مبادرات عدة قائمة على تقنية البلوكتشين مثل “مشروع Aber” بالتعاون مع الإمارات العربية المتحدة والذي قام بين البنك المركزي السعودي ومصرف الإمارات المركزي حول العملة الرقمية المشتركة وتقنية البيانات الموزعة(DLT)، ومشروع مؤسسة النقد العربي السعودي التي اعتمدت تقنية البلوكتشين منذ عام 2020 لضخ الأموال وتداولها.
ماذا ذكر تقرير “PWC” حول المشهد التنظيمي في دولة الإمارات؟
قدّم تقرير “PWC” نظرة عامة عن المشهد التنظيمي للعملات الرقمية بالتحديد في 25 دولة من حول العالم فقط. وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة العربية الوحيدة ضمن هذه الدول.
ويشير تقرير “PWC” أن “دولة الإمارات العربية المتحدة تهدف إلى ترسيخ مكانتها كمركز عالمي رائد للأصول الافتراضية. فقد اتخذت دبي خطوة كبيرة بعد إطلاقها أول سلطة في العالم تركز فقط على الأصول الافتراضية، وهي سلطة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA). كما أطلق سوق أبو ظبي العالمي (ADGM) لأول مرة تنظيم الأصول الافتراضية (الرقمية) في عام 2018.
ومن ناحية تنظيم الأصول الرقمية، أوضح التقرير أن “دولة الإمارات العربية المتحدة تعتمد نظام القانون المدني الاتحادي. فقد وضعت كل إمارة من الإمارات السبع الأعضاء لوائحها الخاصة في المناطق التي لا يوجد فيها قانون اتحادي. وتخضع الأسواق المالية وأسواق رأس المال، إلى حد كبير، لمصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي وهيئة الأوراق المالية والسلع (SCA). ويعمل مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي على ترسيخ مكانته في توصيل أنشطة الأصول الافتراضية المسموح بها إلى البنوك المحلية. وتشمل هذه الأنشطة فتح حسابات لمقدمي خدمات الأصول الافتراضية (VASPs).
وأضاف التقرير: “ينظم قرار هيئة الأوراق المالية والسلع بشأن تنظيم أنشطة الأصول الرقمية (CAAR) طرح وإصدار وإدراج وتداول الأصول الرقمية في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويشمل ذلك العرض الأولي للعملة الرقمية، والتداولات، والأسواق، ومنصات التمويل الجماعي، وخدمات الحفظ والخدمات المالية ذات الصلة القائمة على الأصول الرقمية.”
وقد دخل قانون تنظيم الأصول الإفتراضية في إمارة دبي حيز التنفيذ في مارس 2022. وينطبق على خدمات الأصول الافتراضية في كل دبي، باستثناء الكيانات المالية الخارجية في مركز دبي المالي العالمي (DIFC). وتعمل سلطة تنظيم الأصول الإفتراضية- VARA على تحديد إطار تنظيمي شامل ومرن يتضمن اللوائح وكتب القواعد لتغطية كل أنشطة الأصول الافتراضية، إطار الترخيص لجميع فئات مقدمي خدمات الأصول الافتراضية- VASP (مثل الشركات الكبيرة والشركات الناشئة في دبي وعالمياً) والإطار الإشرافي لتحديد وتقييم وتخفيف المخاطر المستمرة.
وذكر تقرير “PWC” أن سلطة دبي للخدمات المالية (DFSA)، وهي الجهة المنظمة لمركز دبي المالي العالمي، قد نشرت كذلك في مارس 2022 استشارة حول الإطار التنظيمي لأنشطة الخدمات المالية فيما يتعلق بالأصول والممثلات الرقمية (Crypto Tokens).
وفي سوق أبوظبي العالمي تنظم سلطة تنظيم الخدمات المالية (FSRA) المنصات التي تمكّن من تداول الأصول الإفتراضية كالمرافق التجارية متعددة الأطراف. وفي عام 2018، أصدرت سلطة تنظيم الخدمات المالية إطاراً تنظيمياً، تم دمجه في لوائح الخدمات والأسواق المالية (FSMRs) لشركات الأصول الرقمية. كما تم تحديث الإطار للمرة الأخيرة في فبراير 2020 بملاحظات إرشادية مفصلة.
وفيما يخصّ الجرائم المالية، ذكر التقرير أن قانون دولة الإمارات العربية المتحدة ينصّ على لوائح مكافحة غسل الأموال المتوافقة مع مجموعة العمل المالي ومجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وللمبيعات والترويج، نشرت سلطة تنظيم الأصول الإفتراضية إرشادات مفصّلة حول التسويق والإعلان والترويج للأصول الافتراضية. أما في حالات المعاملة الاحترازية، فتحدد سلطة تنظيم الأصول الإفتراضية في دبي المتطلبات الاحترازية اعتماداً على مستوى مخاطر النشاط المنفذ. كما يحدد سوق أبوظبي العالمي متطلبات رأس المال كنسبة مئوية من النفقات التشغيلية السنوية.
وبالإضافة إلى ذلك، تدرس السلطات الإماراتية نهجها في مجالات أخرى من الأصول الرقمية، بما في ذلك العملات الرقمية المستقرة (Stable Coins) وإطار أوسع للتمويل اللامركزي (DeFi). ومن جانب العملة الرقمية للبنك المركزي (CBDC)، يواصل مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي أيضاً استكشاف واختبار إمكانية إصدار عملة رقمية للبنوك المركزية بالجملة من خلال المشاريع الدولية. وفي عام 2021، منحت لجنة البنوك المركزية، جائزة التأثير العالمي للعملات الرقمية المبتكرة للبنك المركزي، للبنوك المركزية كمحفز.
لا شكّ أنّ مشهد تنظيم مجال العملات الرقمية سيتطوّر وسيتبدل كثيراً كلما تطوّر المجال بحدّ ذاته. ومع مرور عامٍ حافل للغاية على العملات الرقمية والتي شهدت “شتاء الكريبتو” وإفلاس الكثير من الشركات والأذرع الضخمة في المجال، استفاق الكثيرون، سواء من المنظمين أو الناشطين أو المستثمرين لضرورة إيجاد إطارات وقوانين عالمية ودولية تنظّم قطاع العملات الرقمية وتحمي عند حاجتهم للحماية! فكيف سيكون مشهد تنظيم العملات الرقمية عام 2023؟ وكيف سيتطوّر؟
لهذا التقرير تتمّة وجزء ثانٍ سيتناول تغيّر المشهد التنظيمي للعملات الرقمية عالمياً وعربياً بعد إفلاس كبار شركات العملات الرقمية عام 2022 (ضمنهم أف تي أكس-FTX) وارتفاع عمليات الاحتيال المالي بشكلٍ كبير، يتبع…